كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورآى صلى الله عليه وسلّم حال المجاهدين في سبيل الله أي: كشف له عن حالهم في دار الجزاء بضرب مثال.
فرأى قومًا يزرعون ويحصدون من ساعته وكلما حصدوا عاد كما كان فقال: «يا جبرائيل ما هذا؟» قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من خير فهو يخلفه والمراد تكرير الجزاء لهم.
ونادى مناد عن يمينه يا محمد انظرني أسألك فلم يجبه فقال: «ما هذا يا جبريل؟» فقال: هذا داعي اليهود أما أنك لو أجبته لتهودت أمتك أي: لتمسكوا بالتوراة والمراد غالب الأمة.
ونادى مناد عن يساره كذلك فلم يجبه فقال: «ما هذا يا جبريل؟» فقال: هذا داعي النصارى أما أنك لو أجبته لتنصرت أمتك أي: لتمسكوا بالإنجيل.
وكشف له عليه السلام عن حال الدنيا بضرب مثال فرأى امرأة حاسرة عن ذراعيها لأن ذلك شأن المقتنص لغيره وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى ومعلوم أن النوع الواحد من الزينة يجلب القلوب إليه فكيف بوجود سائر أنواع الزينة، فقالت: يا محمد انظرني أسألك فلم يلتفت إليها فقال: «من هذا يا جبريل» فقال: تلك الدنيا أما أنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
ورأى صلى الله عليه وسلّم على جانب الطريق عجوزًا فقالت: يا محمد انظرني فلم يلتفت إليها فقال: «من هذه يا جبريل؟» فقال: إنه لم يبق شيء من عمر الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز.
وفي كلام بعضهم قد يقال لها شابة وعجوز بمعنى يتعلق بذاتها وبمعنى يتعلق بغيرها.
الأول وهو أنها من أول وجود هذا النوع الإنساني إلى أيام إبراهيم عليه السلام تسمى الدنيا شابة وفيما بعد ذلك إلى بعثة نبينا عليه السلام كهلة ومن بعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزًا وهذا بالنسبة إلى القرن الإنساني وإلا فقد خلق آدم عليه السلام والدنيا عجوز ذهب شبابها ونضارتها كما ورد في بعض الأخبار.
فإن قلت: الشباب ومقابله إنما يكون في الحيوان.
قلت: الغرض من ذلك التمثيل.
وكشف له عليه السلام عن حال من يقبل الأمانة مع عجزه عن حفظها بضرب مثال فأتى على رجل جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال: «ما هذا يا جبريل؟» قال: هذا الرجل من أمتك يكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها.
قيل: اتقوا الواوات أي: اتقوا مدلولات الكلمات التي أولها واو كالولاية والوزارة والوصاية والوكالة والوديعة.
وكشف له عن حال من ترك الصلاة المفروضة في دار الجزاء فأتى على قوم ترضخ رؤوسهم كلما رضخت عادت كما كانت فقال: «يا جبريل من هؤلاء؟» قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة أي: المفروضة عليهم.
وكشف له عن حال من يترك الزكاة الواجبة عليه فأتى على قوم على إقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع وهو اليابس من الشوك والزقوم ثمر شجر مر له زفرة قيل: إنه لا يعرف شجره في الدنيا وإنما هو شجر في النار وهي المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الْجَحِيمِ} (الصافات: 64) ويأكلون رضف جهنم أي: حجارتها المحماة التي تكون بها فقال: «من هؤلاء يا جبريل» قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم.
وكشف له عن حال الزناة بضرب مثل فأتى على قوم من بين أيديهم لحم نضيج في قدور ولحم نيىء أيضًا في قدور خبيث فجعلوا يأكلون من ذلك النيىء الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال: «ما هذا يا جبريل» قال: هذا الرجل من أمتك يكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح والمرأة تقوم من عند زوجها حلالًا طيبًا فتأتى رجلًا خبيثًا فتبيت عنده حتى تصبح.
وكشف له عن حال من يقطع الطريق بضرب مثال فأتى عليه السلام على خشبة لا يمر بها ثوب ولا شيء إلا خرقته فقال: «من هذه يا جبريل» قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه وتلا {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} (الأعراف: 86).
وفيه إشارة إلى الزناة المعنوية وقطاع الطريق عن أهل الطلب وهم الدجاجلة والأئمة المضلة في صورة السادة القادة الأجلة فإنهم يفسدون أرحام الاستعدادات والاعتقادات بما يلقون فيها من نطف خلاف الحق ويصرفون المقلدين عن طريق التحقيق ويقطعون عليهم خير الطريق فأولئك يحشرون مع الزناة والقطاع.
وكشف له عن حال من يأكل الربا أي: حالته التي يكون عليها في دار الجزاء فرأى رجلًا يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة فقال: «من هذا» فقال: آكل الربا.
وكشف له عن حال من يعظ ولا يتعظ فأتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت فقال: «من هؤلاء يا جبريل» فقال: هؤلاء خطباء الفتنة خطباء أمتك يقولون ما لا يفعلون:
وكشف له عن حال المغتابين للناس فمر على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقال: «من هؤلاء يا جبريل» فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.
وكشف له عن حال من يتكلم بالفحش بضرب مثال فأتى على حجر يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع فقال: «من هذا يا جبريل» فقال: هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها.
وكشف له عن حال من أحوال الجنة فأتى على واد فوجده طيبًا باردًا ريحه ريح المسك وسمع صوتًا فقال: «يا جبريل ما هذا» قال: هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتني ما وعدتني.
وكشف له عن حال من أحوال النار فأتى على واد فسمع صوتًا منكرًا ووجد ريحًا خبيثة فقال: «ما هذا يا جبريل» قال: صوت جهنم تقول يا رب ائتني ما وعدتني، ومر عليه السلام على شخص متنحيًا عن الطريق يقول: هلم يا محمد قال جبريل: سر يا محمد قال عليه السلام: «من هذا قال: عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه ومر عليه السلام على موسى وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر وهو يقول برفع صوته أكرمته وفضلته فقال: من هذا يا جبريل قال: هذا موسى بن عمران عليه السلام قال: ومن يعاتب قال له: يعاتب ربه فيك».
والعتاب مخاطبة فيها إدلال والظاهر أنه عليه السلام نزل عند قبره فصلى ركعتين.
ومر عليه السلام على شجرة تحتها شيخ وعياله فقال: «من هذا يا جبريل» قال: هذا أبوك إبراهيم عليه السلام فسلم عليه فرد عليه السلام فقال: من هذا الذي معك يا جبريل؟ قال: هذا ابنك محمد صلى الله عليه وسلم قال: «مرحبًا بالنبي العربي الأمي ودعا له بالبركة وكان قبر إبراهيم تحت تلك الشجرة فنزل عليه السلام وصلى هناك ركعتين ثم ركب وسار حتى أتى الوادي الذي في بيت المقدس فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابي وهي النمارق أي: الوسائد فقيل: يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال: مثل الحممة» أي: الفحمة ومضى عليه السلام حتى انتهى إلى إيليا من أرض الشام وهو بالكسر مدينة القدس واستقبله من الملائكة جم غفير لا يحصى عددهم فدخلها من الباب اليماني الذي فيه مثل الشمس والقمر ثم انتهى إلى بيت المقدس وكان بباب المسجد حجر فأدخل جبريل يده فيه فخرقه فكان كهيئة الحلقة وربط به البراق.
وفي حديث أبي سفيان رضي الله عنه قبل إسلامه أنه قال لقيصر يحط من قدره صلى الله عليه وسلّم ألا أخبرك أيها الملك عنه خبرًا تعلم منه أنه يكذب؟ فقال: وما هو؟ قال: إنه يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا في ليلة واحدة فقال بطريق: أنا أعرف تلك الليلة فقال له قيصر: ما أعلمك بها قال: إني كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير واحد وهو الباب الفلاني غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني فلم يفد فقالوا إن البناء نزل عليه فاتركوه إلى غد حتى يأتي بعض النجارين فيصلحه فتركه مفتوحًا فلم أصبحت غدوت فإذا الحجر الذي من زاوية الباب مثقوب وإذا فيه أثر مربط الدابة ولم أجد بالباب ما يمنعه من الإغلاق فعلمت أنه إنما امتنع لأجل ما كنت أجده في العلم القديم أن نبيًا يصعد من بيت المقدس إلى السماء وعند ذلك قلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا لهذا الأمر.
ولا يخفى أن عدم انغلاق الباب إنما كان ليكون آية وإلا فجبريل لا يمنعه باب مغلق ولا غيره وكذا خرق المربط وربط البراق وإلا فالبراق لا يحتاج إلى الربط كسائر الدواب الدنيوية فإن الله تعالى قد سخره لحبيبه عليه السلام.
ولما استوى عليه السلام على الحجر المذكور قال جبريل: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين قال: نعم قال جبريل: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن فسلم عليه السلام عليهن فرددن عليه السلام فقال: من أنتن قلن خيرات حسان نساء قوم أبرار نقوا فلم يدرنوا وأقاموا فلم يظعنوا وخلدوا فلم يموتوا ثم دخل عليه السلام المسجد ونزلت الملائكة وأحيى الله له آدم ومن دونه من الأنبياء من سمي الله ومن لم يسم حتى لم يشذ منهم أحد فرآهم في صورة مثالية كهيئتهم الجسدانية إلا عيسى وإدريس والخضر والياس فإنه رآهم بأجسادهم الدنيوية لكونهم من زمرة الاحياء كما هو الظاهر فسلموا عليه وهنأوه بما أعطاه الله تعالى من الكرامة وقالوا: الحمدالذي جعلك خاتم الأنبياء فنعم النبي أنت ونعم الأخ أنت وأمتك خير الأمم ثم قال جبريل: تقدم يا محمد وصل بإخوانك من الأنبياء ركعتين فصلى بهم ركعتين وكان خلف ظهره إبراهيم وعن يمينه إسماعيل وعن يساره إسحاق عليهم السلام وكانوا سبعة صفوف ثلاثة صفوف من الأنبياء المرسلين وأربعة من سائر الأنبياء.
قال في إنسان العيون: والذي يظهر- والله أعلم- أن هذه الصلاة كانت من النفل المطلق ولا يضر وقوع الجماعة فيها انتهى.
وفي منية المفتي أيضًا إمامة النبي عليه السلام ليلة المعراج لأرواح الأنبياء وكانت في النافلة انتهى.
قال عليه السلام: «لما وصلت إلى بيت المقدس وصليت فيه ركعتين» أي: إمامًا بالأنبياء والملائكة «أخذني العطش أشد ما أخذني فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر فأخذت الذي فيه اللبن وكان ذلك بتوفيق ربي فشربته إلا قليلًا منه وتركت الخمر فقال جبريل: أصبت الفطرة يا محمد» لأن فطرته هي الملائمة للعلم والحلم والحكمة «أما أنك لو شربت الخمر لغوت أمتك كلها ولو شربت اللبن كله لما ضل أحد من أمتك بعدك فقلت: يا جبريل أردد عليّ اللبن حتى أشربه كله فقال جبريل: قضي الأمر {ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم}».
قال بعضهم: إنه لم يختلف أحد أنه عرج به صلى الله عليه وسلّم من عند القبة التي يقال لها قبة المعراج عن يمين الصخرة وقد جاء «صخرة بيت المقدس من صخور الجنة» وفيها أثر قدم النبي عليه السلام.
قال أبي بن كعب: ما من ماء عذب إلا وينبع من تحت صخرة بيت المقدس ثم يتفرق في الأرض وهذه الصخرة من عجائب الله فإنها صخرة شعثاء في وسط المسجد الأقصى قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ومن تحتها المغارة التي انفصلت من كل جهة فهي معلقة بين السماء والأرض.
قال الإمام أبو بكر بن العربي في شرح الموطأ امتنعت لهيبتها أن أدخل من تحتها لأني كنت أخاف أن تسقط عليّ بالذنوب ثم بعد مدة دخلتها فرأيت العجب العجاب تمشي في جوانبها من كل جهة فتراها منفصلة عن الأرض لا يتصل بها من الأرض شيء ولا بعض شيء وبعض الجهات أشد انفصالًا من بعض.
قال بعضهم: بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلًا وباب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس أي: ولهذا أسري به عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليحصل العروج مستويًا من غير تعويج.
يقول الفقير رقاه الله القدير إلى معرفة سر المعراج المنير: لعل وجه الإسراء إلى بيت المقدس هو التبرك بقدمه الشريفة لكون مدينة القدس ومسجدها متعبد كثير من الأنبياء ومدفنهم لا لأنه يحصل العروج مستويًا فإن ذلك من باب قياس الغائب على الشاهد وتقدير الملكوت بالملك إذ الأرواح الطيبة وألطفها النبي عليه السلام بجسمه وروحه لا حائل لهم واعتبار الاستواء والتعويج من باب التكلف الذي لا يناسب حال المعراج.
وقد ثبت أن عيسى عليه السلام سينزل إلى المنارة البيضاء الدمشقية ولم يعهد أنها حيال باب السماء فالجواب العقلي لا يتمشى ههنا.
قال في ربيع الأبرار «ثم قال لي جبريل: قم يا محمد فقمت فإذا بسلم من ذهب قوائمه من فضة مركب من اللؤلؤ والياقوت يتلألأ نوره وإذا أسفله على صخرة بيت المقدس ورأسه في السماء فقيل لي: يا محمد اصعد فصعدت».
وفي إنسان العيون: عرج إلى السماء من الصخرة على المعراج لا على البراق.
والمعراج بكسر الميم وفتحها الذي تعرج أرواح بني آدم فيه وهو سلم له مرقاة من ذهب وهذا المعراج لم تر الخلائق أحسن منه أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحًا إلى السماء أي: بعد خروج روحه فإن ذلك عجبه بالمعراج الذي نصب لروحه لتعرج عليه وذلك شامل للمؤمن والكافر إلا أن المؤمن يفتح لروحه باب السماء دون الكافر فترد بعد عروجها تحسرًا وندامة وتبكيتًا له وذلك المعراج أتى به من جنة الفردوس وأنه منضد باللؤلؤ أي: جعل فيه اللؤلؤ بعضه على بعض عن يمينه ملائكة ويساره ملائكة فصعد صلى الله عليه وسلّم ومعه جبريل.